في الشهر الأخير من عام 2025، لم يعد الذكاء الاصطناعي الطبي فكرة تُناقَش في المؤتمرات، ولا وعداً تُسوّقه الشركات الناشئة، فقد أصبح شريكاً صامتاً في العيادة، يجلس إلى جانب الطبيب، يقرأ ما لا تراه العين، ويتنبأ بما لم يبدأ بعد. هذا التحول ليس مجرد تطور تكنولوجي، بل هو إعادة تعريف لطريقة ممارسة الطب، وفتح آفاق جديدة للتشخيص المبكر والعلاج الدقيق. لم يعد الأمر خيالاً علمياً، بل واقعاً ملموساً يغير حياة المرضى والأطباء على حد سواء.

من «الاختبار البحثي» إلى «القرار السريري»: نقطة التحول في الرعاية الصحية

هذا العام تحديداً، شهد انتقال الذكاء الاصطناعي الطبي من مرحلة «الاختبار البحثي» إلى «القرار السريري». لم تعد الخوارزميات مجرد أدوات مساعدة، بل بدأت في تقديم رؤى قيمة تساعد الأطباء على اتخاذ قرارات أكثر استنارة ودقة. هذا الانتقال يعني أن الخوارزميات لا تشرح المرض فقط، بل تسبق ظهوره، وتُعيد تعريف معنى التشخيص المبكر والعلاج الدقيق، مما يمهد الطريق نحو طب أكثر وقائية وتركيزاً على المريض.

قفزات الذكاء الاصطناعي في عام 2025: خمسة إنجازات غيرت قواعد اللعبة

شهد عام 2025 سلسلة من الإنجازات المذهلة في مجال الذكاء الاصطناعي الطبي، أثبتت قدرته على إحداث ثورة في الرعاية الصحية. فيما يلي خمس قفزات موثّقة نُشرت نتائجها هذا العام، تُظهر كيف تحوّل السيليكون إلى أداة إنقاذ حقيقية.

اكتشاف السرطان قبل ظهور الأعراض: نموذج P-Cancer

في الولايات المتحدة، قدّم باحثون نموذجاً جديداً يُعرف باسم بي – كانسر (P – Cancer)، قادراً على تحليل صور الرنين المغناطيسي للبروستاتا خلال 12 ثانية فقط. لا يكتفي النظام برصد وجود الورم، بل يميّز بين السرطان البطيء، وذلك الذي يُعدّ خطراً سريرياً، بدقة بلغت 94 في المائة، متفوقاً على اختصاصي الأشعة بفارق كبير. والأهم من ذلك، أن تقرير الخوارزمية يصل إلى الطبيب قبل مغادرة المريض سرير الفحص، مختصراً أسابيع الانتظار إلى دقائق، ومغيّراً إيقاع التشخيص من الترقّب إلى القرار.

التنبؤ بالنوبة القلبية: قلب يبوح بمستقبله

في كليفلاند كلينك، تجاوز الذكاء الاصطناعي قراءة صور القلب إلى استشراف مستقبله الصحي. يدمج هذا النموذج المتقدّم بين تصوير الرنين المغناطيسي للقلب والبيانات الوراثية، ونجح في التنبؤ بحدوث أحداث قلبية كبرى خلال السنوات الخمس المقبلة بدقة قاربت 90 في المائة. هذه القفزة لا تعني تشخيص المرض فحسب، بل اعتراضه قبل أن يتجسّد، فاتحة الباب أمام طب وقائي يُكتب فيه الدواء قبل ظهور العرض.

القلب المطبوع ثلاثي الأبعاد: دور الذكاء الاصطناعي في الجراحة التجديدية

أواخر عام 2025، أعلن أحد المعاهد البحثية العالمية عن إنجاز بدا أقرب إلى الخيال العلمي: قلب بشري مطبوع ثلاثي الأبعاد بالكامل من خلايا المريض نفسه. لكن هذا القلب لم يُترك للصدفة. خوارزميات تعلّم عميق راقبت عملية الطباعة لحظة بلحظة، وضبطت تدفّق الدم الرقمي داخل النموذج، مما أسهم في خفض خطر التجلّط بنسبة 38 في المائة. هنا لم يعد الذكاء الاصطناعي أداة تحليل أو دعم قرار، بل أصبح جزءاً من فيزيولوجيا العضو نفسه.

علاج السكري: دمج البيانات لتحقيق نتائج أفضل

في الولايات المتحدة، برز هذا العام نموذج ديب – دايبيت (Deep – Diabetes) كأحد أكثر تطبيقات الذكاء الاصطناعي نضجاً في علاج السكري من النوع الثاني. يدمج النظام بين صورة شبكية العين والمعلومات النصية في ملف المريض، ليقترح خطة علاج وتغذية مصممة بدقة لكل فرد. أظهرت تجربة سريرية شملت أكثر من 50 ألف مريض، تحسّناً إضافياً في مستوى الهيموغلوبين السكري (HbA1c) بمقدار 0.9 في المائة مقارنة بالرعاية التقليدية، وهو رقم قد يبدو متواضعاً، لكنه كبير الأثر في ميزان المضاعفات.

تشخيص الخرف: كشف مبكر من خلال العين

في كندا، طُوّر جهاز محمول يُعرف باسم لومي – نيرو (Lumi – Neuro)، قادر على تصوير ترسّبات بروتين الأميلويد في شبكية العين، دون حقن أو أي تدخل جراحي. خلال دقيقة واحدة فقط، يقدّر الجهاز خطر الخرف المبكر بدقة بلغت 88 في المائة، وبتكلفة تقل عن 20 دولاراً للفحص. هذه التقنية البسيطة وغير المكلفة نقلت تشخيص الخرف من العيادات المتخصصة إلى العيادات المتنقلة، ومن الانتظار الطويل إلى الكشف المبكر.

السعودية والطب الذكي: نحو مستقبل واعد

في المملكة العربية السعودية، شهد عام 2025 تسارعاً لافتاً في توظيف الذكاء الاصطناعي الطبي داخل المنظومة الصحية، من التشخيص المبكر إلى دعم القرار السريري. أُطلقت منصات وطنية لتحليل الصور الطبية والسجلات الصحية الضخمة، وأسهمت خوارزميات محلية في تحسين دقة الكشف عن أمراض القلب والسكري والأورام، ضمن إطار تنظيمي تقوده الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا SDAIA). بهذا الانتقال، لم تعد المملكة مستهلكة للتقنية، بل شريك في صياغة نموذج عربي للطب الذكي، يوازن بين الابتكار، الحوكمة، وخصوصية المريض. هذا التوجه يعكس رؤية المملكة الطموحة نحو بناء مستقبل رعاية صحية أكثر كفاءة وفعالية.

ما بعد 2025: الأخلاقيات أولاً

ورغم هذه القفزات، لم يكن عام 2025 خالياً من الأسئلة. فقد كشفت دراسة حديثة نُشرت في مجلة «نيتشر ميديسن» عن تحيّزات مرتبطة بالعرق وبالاختلافات بين الرجال والنساء في بعض نماذج تشخيص السرطان، ما أعاد إلى الواجهة مفهوم عدالة الخوارزمية، والحاجة إلى حوكمة صارمة للبيانات الطبية، وشفافية واضحة في اتخاذ القرار السريري. فالذكاء الاصطناعي، مهما بلغ من الدقة، لا يتجاوز كونه مرآة لمن صممه… ودقته الأخلاقية لا تقل أهمية عن دقته الحسابية. يجب أن نضمن أن هذه التقنيات تُستخدم بشكل عادل ومسؤول، وأنها لا تزيد من الفوارق الصحية القائمة.

الخلاصة: فرصة لا تُكرر

ما كشفه عام 2025 أن الذكاء الاصطناعي الطبي لم يعد وعداً مؤجّلاً، بل لحظة حاضرة في قلب الممارسة اليومية. هو طبّ يعيد ترتيب الزمن: يسبق المرض إلى جذوره، ويمنح الطبيب ما كان ينقصه دائماً… وقتاً للفهم، ومساحة للرحمة. أما العالم العربي؛ فهو يقف اليوم عند عتبة تاريخية نادرة، فإمّا أن يكتفي بقراءة هذه التحوّلات من بعيد، أو أن يشارك في كتابتها، مساهماً في صياغة طبٍّ ذكي لا يُقصي الإنسان، بل يعيده إلى مركز المعادلة. الفرص الكبرى لا تتكرر… بل تُدرك حين يحسن أصحابها الإصغاء لنداء الزمن. وكما أدرك ابن سينا منذ قرون، فإن جوهر الطب ليس في الأدوات، بل في فهم الإنسان قبل علّته… وكل تقنية لا تخدم هذا الفهم، تبقى ناقصة، مهما بلغت دقّتها.

شاركها.
Exit mobile version